Ahmed AlSadek

5 out of 5 stars

"قراءة نقدية للكاتب والناقد د.يسري عبد الله" أحمد الصادق في رحلة الفناء والخلود... روائيًا A+ A- شكلت سردية الخيال العلمي تراثًا أدبيًا مستقرًّا في متن السردية العالمية، وانتقلت منها إلى السينما التي دفعت بها شوطا أبعد مدى، وترتبط سرود الخيال العلمي المؤسِّسة بالكاتب الفرنسي جول فيرن، خاصة في أعماله المتواترة "خمسة أسابيع في منطاد" و"رحلة إلى مركز الأرض" و"من الأرض إلى القمر"، التي تحولت إلى فيلم سينمائي، وصارت ملهمة لصناع السينما فيما بعد. وفي أدبنا العربي الحديث ثمة أسماء متعددة، من قبيل الكاتب المصري نهاد شريف وروايته "قاهر الزمن"، وأعماله المختلفة التي خلقت مزاوجة بين أفق الخيال العلمي الوسيع، والقوانين الداخلية للنص الأدبي، وتواترت نصوص عديدة تسعى الى الاشتباك مع هذه المنطقة الكتابية الرائجة إلا قليلاً. ترتبط سردية الخيال العلمي بإمكانات المجتمع العلمي ذاته، ومدى حضوره في متن الحياة، ولذا ستجد حضورا مزدهرا لأدب الخيال العلمي في المركز الأورو-أميركى واستحضاره من ثم في السينما التي نفذت إلى المتلقي العام عبر أفلام عديدة تخطت مشاهدتها الأرقام المعهودة من قبيل آلة الزمن، وحرب النجوم، وغيرهما. هيدرا... وفرضيات علمية في روايته "هيدرا... أوديسا الفناء والخلود" (دار العين)، والحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية في الرواية، يقدم الكاتب المصري أحمد الصادق عالما يخصه، ينطلق من فرضيات علمية ويصل إلى ما هو أبعد. بدءًا من العنوان الدال "هيدرا... أوديسا الفناء والخلود"، تلوح بنية دالّة مركبة تؤدي معنى داخل المسار السردي للنص، حيث تعد هيدرا في الأدبيات العلمية علامة على كائن يتجدد باستمرار، يحيا في المياه العذبة، ولم يتبين العلماء علامات شيخوخته. تأخذ المفردة الدالة في الواقع الخارجي على اسم محدد، بعدًا آخر في النص الروائي يتصل بتيمة الارتحال. المركب زمكاني النزعة، حيث الرحلة الفضائية في الزمان والمكان، في محاولة للتماس مع السؤال المركزي في الرواية: ماذا لو أصبح الإنسان خالدًا؟!. ولا تسعى الرواية الى تقديم أجوبة، بل تطرح خطاباً شاكًّا ومتسائلاً، وجوديّ الطابع، لتبدو في النهاية مشغولة بأسئلة الكتابة الخلاقة عن الوجود والعدم، الخلود والفناء، المصير والمآل. وفي عنوانها الفرعي "أوديسا الفناء والخلود"، تشير الأوديسا إلى فكرة الرحلة الطويلة، وتحيل المفردة إلى الملحمة اليونانية الشهيرة. ثمة دلالة هنا أيضا على عالمين متقابلين: "الخلود" و"الفناء"، تعبران عنهما طبقتان أزليتان: السادة والعبيد، في فضاء متسع جغرافيا، عبر حلقات الفنتازيا التي تتوالد باستمرار داخل النص، وزمانيًا عبر مؤشرات الرحلة الممتدة منذ الإنسان القديم (بود)، ووصولا إلى الزمن المستقبلي (المجهول)، حيث بدوي، وبودين، وبودفاي. أبنية السرد تبني الرحلة عوالمها وتخلق منطقها الجمالي الخاص الذي يعتمد أسلوب الوحدات السردية المنفصلة المتصلة، وتتشكل من ١٨ فصلا سردياً، تبدو متعاضدة ومكونة المتن السردي، لكن كل فصل منها يبدو- في الآن نفسه- وكأنه قائم، ومستقل بذاته. يمثل التصدير جزءًا من البنية الروائية، وهو تطواف واسع بين الفلسفة، والعلم، والمقدس (بروتاغوراس/ ملحمة غلغامش/ نيتشة/ سورة الشعراء)، حيث رحلة الإنسان في تنويعاتها وصداها الذي لم يزل يتردد. وتعتمد الرواية بنائيًا على جدل العلمي/ المعرفي بافتراضاته واحتمالاته، والجمالي/ السردي بتقنياته وبناه وآلياته. هكذا تبدأ الرواية: "في آن من آنات التضخم الأبدي، ووسط حشد هائل من الأكوان المتعددة وقفت هناك كاميرا أزلية تراقب ظهور انفجارنا العظيم... في البدء، ظهرت داخل الكادر نقطة سوداء، تحوي مستقبل كوننا بداخلها، ولكن الكون لم يحتمل فكرة أن يكون حبيس نقطة منعدمة الأبعاد والزمن..." يعول الاستهلال الروائي هنا على العلم (نظرية الانفجار العظيم)، يباعد بينه وبين الميتافيزيقا، ويظهر النحت اللغوي في مفردة "آنات"، وتتخذ اللغة مستويات مختلفة في الرواية، خاصة حين يبدل الكاتب بين صيغ الحكي المستخدمة، وهذا تكنيك مركزي في الرواية، ويتجلى على نحو أكثر جدة في المواضع التي يتحرك فيها السرد بين داخل الشخوص وخارجهم، فحين يحمل المقطع عنوانا فرعيا مثل "داخل رأس بود" يكون الحكي بضمير المتكلم (أحب أن أكون مختلفا عن الجميع... ليس لي شأن بعينه، ولكن من أجل الاختلاف. يشعرني ذلك بأنني قريب من حقيقة ما يجهلها الجميع)، وحين يتخذ المقطع عنوانا فرعيا مثل "خارج رأس بود" يكون الحكي بضمير الغائب:"بينما يقف بود مبتسما في صورة ثابتة، تقوم الكاميرا بتشغيل الفيديو بسرعة بطيئة، فنلاحظ تغيرا طفيفا على ملامح وجهه المنبسطة، وقد بدأت في الانقباض شيئا فشيئا". يحتلّ بود الرامز إلى الإنسان الكهفي الأول، حيث البقاء للأقوى جسدياً، الفصول الثلاثة الأولى من الرواية، ثم يأتي بدوي الذي يقدمه الراوي الرئيسي بوصفه شابًا في الثلاثينات من عمره، وقد اقترب من الحصول على تقنية الخلود التي تبقيه أبدًا غير محدد، وتلوح معه زوجته أسماء، التي تجتر خلفها تاريخا مربكا، لكن التحولات الدرامية تدفع بأسماء إلى حتفها، ومن بعدها بدوي الذي مات منتحرا في مرددا إحدى الجمل المركزية في النص (الخلود بدون حب أو إنسانية ليس له معنى). يقفز الزمن إلى العام 3402م حيث خروج بودين، واكتمال سلسلة التحولات اللانهائية في مجرى الإنسانية، وتشابكات أحوالها ومصائرها، وشبكة المتحكمين فيها، ثم يأتي بودفاي المرتحل في الزمن المستقبلي إلى نقطة غارقة في البعد بملايين السنين، أو العائد في الزمن طويلا، أو القريب من بودين زمنيا. وتلوح فكرة الإنسان الفاني في مقابل الآخر الخالد "الأفتار" المتعدد، وتصطحب الرحلة المركبة منذ البداية وحتى النهاية اللا نهائية تلك الكاميرا الأزلية التي ترصد كل ما دار وسيدور، في توظيف لآلية عين الكاميرا بالمعنى الفني، وأسطرة الوجود الممتد بالمعنى الدلالي. وبعد... ثمة كاتب موهوب هنا، وثمة كتابة حقيقية، وثمة رغبة في استبناء عالم مسكون بالشغف، والتشويق الدرامي، وانفتاح المعنى.