Ahmed AlSadek

5 out of 5 stars

"مراجعة الكاتب والمترجم د.أحمد سمير سعد" هيدرا هو وحش متعدد الرؤوس في الأساطير الإغريقية، متى قطعت رأس من رؤوسه نما له رأسان، يبدو خالدا إذن بصورة أو أخرى إلا أن هرقل استطاع القضاء عليه. هيدرا كذلك في الإنجليزية هو شر مستطير، وكأن الرحلة لا يمكن أن تتخلص من الشر أو أن حلم الخلود نفسه في هذا العالم شر كبير. هيدرا كذلك كائن أولي بدائي بسيط، ربما من عنده بدأ الكثير. حقيقة كانت الرواية مفاجأة سارة بالنسبة لي وكذلك كان أحمد الصادق مفاجأة سارة لي. تعمد أحمد أن يكتب رواية خيال علمي ترتكز على بعض الحقائق العلمية التي نعتقد فيها اليوم ومن الواضح أنه بذل مجهودا كبيرا في تدقيق بعض المعلومات لعل أبرزها حسابات تفاوت مرور الزمن بحسب سرعة المتحرك ما أثرى العمل بالكثير من التفاصيل، من الحسابات التي راجعتها كذلك بدافع الفضول ووجدتها صحيحة حساب اليوم الذي سوف يوافقه التاريخ المستقبلي (٢٧ سبتمبر عام ٣٠٦١٨٩٩٦٣)، إذا أجريت الحسابات سوف تجد أن ذلك اليوم سوف يوافق بالفعل يوم جمعة كما كتب أحمد الصادق في روايته. اختار أحمد الصادق أن يكتب من منظور كاميرا لكنها ليست كاميرا كالتي اعتدناها، إنها كاميرا تستطيع اختراق الرؤوس ومتابعة خفايا النفوس، هي تنقل لنا مشاهد الخارج كما تتحرك في مشاهد أخرى إلى داخل الأدمغة، لا لتنقل صور المخ والخلايا والدماء، لكن لتنقل تفاصيل الأفكار وما تتطلع إليه النفوس. هي كاميرا لا تستطيع سبر أغوار النفوس فقط بل بإمكانها كذلك أن تتجاوز إطارات الزمان والمكان، لترصد المفردة التي بدأ منها كوننا وخلق الزمان والمكان، هي إذن استطاعت تجاوز الزمكان نفسه ورصد ما لا يمكن رصده! وضعنا هذا الأسلوب في قالب أقرب للشكل السينمائي، نتحرك في مشاهد حيوية تنتقل من داخل رأس أحدهم بعد أن وصفت انطباعاته إلى رأس آخر ثم تخرج لتصف في حيادية المشهد من الخارج.. هذا الأسلوب يطرح تساؤلا مثيرا حول دور السينما الحديثة خاصة سينما الخيال العلمي في إلهام الكتاب، خاصة المشاهد المثيرة لكوكبنا الأزرق من الخارج وكيف يتضاءل مع الابتعاد عنه وكيف يختفي تماما مع السفر بين النجوم ومن ثم المجرات والتحليق في الفضاء الفسيح الذي عرضه مليارات السنين الضوئية.. ولعل أحد أكثر الأجزاء براعة الدالة على هذه الحيوية في السرد المشهد الذي كان بين بدوي وأسماء حينما أخذت الكاميرا تتنقل بين داخل رأسيهما، لتعرض وجهات نظر شديدة التباين حول نفس الأمر وترصد تغير ذكي في مواقفهما، وكيف تبدلت الكثير من أحكامهما تحت تأثير الفوز بالخلود أو حتى الحلم به. كثيرا ما يُطرح أن أبطال روايات الخيال العلمي أبطال مسطحون، لأن الاهتمام منصب على الموضوع والفكرة بل يعتبر البعض أن هذه هي إحدى خصائص روايات الخيال العلمي وفي واقع الأمر حاولت بعض شخصيات هيدرا الهروب من هذا النمط لكن أغلب الشخصيات جاءت مسطحة بشكل ما، بالرغم من اجتهاد أحمد الصادق في رسم ماض لها، لكنه جاء في بعض الأحيان مبتسرا، وأظن أن السبب يرجع إلى الموضوع ذاته، فالشخصيات تعيش في النهاية في عالم مختلف عن العوالم التي نعتادها، وهي هنا تناقش في أحيان كثيرة أفكارا فلسفية حول تأثير الخلود على الاختيارات الأخلاقية والحب والانتماء ويناقش أحمد الصادق هذه الأفكار وتنوعاتها على مدار فترة زمنية طويلة للغاية وفي أزمنة متباينة، فتبدو الأفكار هي البطل خاصة أن الأبطال ليسوا هم الأبطال الذين اعتدناهم، إن مشاكلهم مختلفة عن معضلات الشخصيات التي قد ننعتها بالعمق، إذ إن هذه المعضلات هي التي ترسم العمق الذي نظنه. وكعادة روايات الخيال العلمي تسقط صراعاتنا الخاصة بنا على أبعاد أخرى وعلى كائنات أخرى وفي ظروف أخرى، ربما لنتحرر من أسر أفكارنا البدئية وننظر للأمور بصورة مختلفة، هكذا نجد أحمد يناقش مشاكل الطبقية وتباين القدرات واستعباد البشر لكنه يفعل في حكاية مستقبلية سحرية وفي قصة ماضوية عند بدايات الإنسان العاقل. صحيح أننا نرى مجتمعا استطاع بعض أفراده الوصول إلى الخلود لكن الخلود نفسه يتحول إلى معضلة والأدهى أن هذا الخلود لم يكفل للإنسان الوصول إلى حل تساؤلاته الكبرى المنحصرة في من أين وإلى أين ولماذا وما الغاية؟ عاش البعض الخلود من أجل العلم والبعض من أجل السيطرة والبعض من أجل الاستمتاع، وجميعهم فشلوا في البقاء، الوحيد الذي بقى بجسده فقد شغفه وتشوشت ذاكرته ومضى في الحياة وكفى.. شكلت الروايات التي تبحث الخلود جانبا كبيرا من روايات الخيال العلمي العربي والغربي، في الماضي كان يتم الترقيع قبل أن يعيش البشر ذلك الخلود ويُقضى على الفكرة في مهدها، على الأغلب من خلال كارثة تقضي على عقار الخلود ومعادلته لكن أحمد الصادق كان أكثر شجاعة ومضى بالفكرة إلى النهاية وجعل أحدهم يعيش مئات الملايين من السنين، اختار أحمد أن يقص علينا حكاية الإنسان العاقل منذ وجد وفكر لأول مرة في مغزى العالم ورحلته على مر سنين طويلة بلغت الملايين. إلا أن أحمد الصادق قد استخدم كذلك تقنية اللولب الزمني، لنجد أن أحد الذين عاشوا في الألفية الرابعة وقدر على السفر في الزمن عبر ثقب دودي نحو الماضي وقابل الإنسان البدائي قد أثر في ذلك الإنسان البدائي وألهمه أسطورة بقيت معه وصنعت جزء كبيرا من التاريخ، وهي التقنية المثيرة للغاية والتي تبدو معاكسة للحس المشترك، عندما يؤثر إنسان من المستقبل في ماضيه، لتغيب مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل ونلج لولبا مغلقا، يؤثر مستقبله في ماضيه وماضيه في مستقبله. شابت الرواية في رأيي بعض الهنات البسيطة.. على سبيل المثال قتل أسماء لعشيقها وكيف برأت نفسها من تعمد القتل بمجرد محو ذاكرة الهاتف المحمول الخاص بالضحية، في حين أن كثير من هذا الداتا قد تكون محملة على سيرفرات شركة الاتصالات نفسها، والمتعلقة بأرقام الاتصال وأماكن التواجد وغيرها وبالتالي فمجرد محو ذاكرة الهاتف لا تكفل النجاة. تبدو كذلك جملة الحس المشترك في توصيف الفارق بين ذكاء البشر وذكاء الآلات ملتبسة داخل الرواية.. الفارق الحالي بين الذكاء البشري وذكاء الآلات أن البشر يعرفون الحدس أو الحس المشترك كما أسمته الرواية، في حين لا تعرف الآلات إلا الخوارزميات التي لا تستطيع أن تعمل إلا من خلالها ولا يمكن أبدا لها أن تحاكم أفكارها المبدئية، كذلك يمتلك البشر الرغبة والدافع والقيمة والغاية، في حين لا تعرف الآلات ذلك.. لكن متى امتلكت الآلات القدرة على مراجعة أفكارها المبدئية وتملكتها الرغبة في العلم أو غاية تحقيق العدل، إذن فقد صارت مثل البشر وبالتالي فقد امتلكت ما يشبه الحدس أو الحس المشترك أو هكذا أظن، هي بذلك حققت القفزة ولم يعد هناك فارق بينها وبين البشر. أخيرا، ربما حاولت الرواية مناقشة العديد جدا من الأفكار وتغطية فترات زمنية طويلة والمرور بصراعات كثيرة للغاية وهي وإن عكست مقدرة كبيرة لدى الكاتب على غزل الخيوط في مهارة وحنكة إلا أن ذلك قد ارتبط في بعض الأحيان بالاضطرار إلى السرد المباشر والتقريري.. في النهاية أحيي أحمد الصادق كثيرا على روايته المبشرة للغاية والتي أسعدتني كثيرا وفي انتظار الكثير منه مستقبلا.