نافذة على الضياء

(0)
(0)
Rating
0.0/5 0
Description

نافذة على الضياء بقلم Adnan Algalgouley ... حين يمر ذلك المشهد القديم بخاطرها يكون مغلفاً بضباب النسيان الذي يحاصره لدرجة تخفي الكثير من معالمه ، تختفي مثلاً أمها بملابس خروجها السوداء وخجلها الريفي يزيد كلما حدثت مواجهة بينها وبين المدينة ، تختفي أطباق الكباب ، والكفتة التي كانت موضوعة على الطاولة ، ولا يبقى إلا طبق الزيتون وأسئلتها وإجابة أبيها التي لم تتغير . يتبقى أيضاً النيل ووقفتهم أمامه لبعض الوقت بعد خروجهم ، وانبهارها الطفولي بأشجار " الفيكس نتدا " التي ملأت شوارع تلك المدينة بأشكالها الدائرية والمثلثة . أصف انبهارها بالطفولي لأنها لم تكره شيئاً حين كبرت كما كرهت هذا النوع من الأشجار . حين حكت هذه الواقعة لظيا في فترة الوئام بينها اعتبرها دليلاً مبكراً على بحثها عن التفرد بين المتشابهات في حين رآها أصدقاء آخرون علامة واضحة على غباء متأصل منذ الطفولة كما أخبروها ضاحكين . الآن سلمى كفت عن استعادة هذه الذكرى ، وإعادة حكيها للآخرين . لم تعد راغبة في الحكي أو الكلام الذي طالما أحبته وانحازت له ضدّ الصمت . تكتفي فقط بإغماض عينيها والتحليق في ملكوت خاص . صارت تغمض عينيها كثيراً ، تغمضهما فتفرق في فردوسها الملون بألوان قوس قزح ، تظهر الألوان المتعددة في البداية ، لكنها ومع استمرار الإغماض تتداخل الألوان ، ثم تتحول إلى اللون الوردي . تصبح الجنة بالنسبة لها هي بستان خوخ وقت إزهاره ، حين تتحول الأشجار الرقيقة بأكملها للوحة وردية اللون هي الزهور مؤطرة ببراعم زاهية الخضرة هي الأوراق ، تفكر سلمى أن الصينيين القدماء حكماء جداً ، وإلا كيف اختاروا لليوتوبيا كما تخيلوها في حكاياتهم القديمة إسم " أرض أزهار الخوخ " ؟ . غر أنها لا تبحث عن يوتوبيا ، ترغب فقط في بعض السكينة . " أرض أزهار الخوخ " في الحكاية الصينية مكان معزول عن العالم بعيد عن شروره ، وهنا حيث توجد الآن مكان معزول هو الآخر ، لكن العزلة لم توفر لها السكينة أو الهدوء . في أعماقها لم يكن هناك سوى جحيم من الأفكار المتضاربة ، والتخيّلات والهواجس التي لا تستطيع التفريق بينها وبين حياتها الواقعية . في ليلتها الأخيرة في بيت أبيها حلمت سلمى أنها تلمس ناباً في فكها الأسفل ، فإذا به ينخلع في يدها . ظلّ قابعاً في كفها وهي تتفحصه باهتمام ، حركته بسبباتها فأبصرت بقعة دم تغطي أسفله . حين استيقظت لم تتذكر الحلم مباشرة .برق في ذهنها فقط بينما تغسل أسنانها أمام المرآة تعرف أن فقدان المرء لأحد أسنانه نذير شؤم ، غير أنها ليست متيقنة من التفسير الدقيق لهذا . اتجهت مسرعة إلى غرفتها ، فتحت كتاب تفسير الأحلام الكبير للإمام محمد بن سيرين الموضوع فوق الكومود المجاور لفراشها ، ... قرأت أن سقوط السن الواحدة من غير معالجة ، وذهابها بمجرد سقوطها ، يعني موت المريض من أهل البيت ، أما إذا أخذها الحالم بيده ...... للمرة الأولى لم تهتم سلمى كثيراً بتفسير تقرأه لحلم ما ، تجاهلت ما قرأته واتجهت إلى درج التسريحة ، أخرجت منه الأوراق التي نحّتها صباح اليوم الذي حرقت فيه صندوق أبيها ، ومنها صور خالتها لولاّ ... في اليوم التالي لوصولها لشقتها في القاهرة كتبت إيميلا أخيراً لظيار أخبرته فيه أنها تتفهم سبب تجاهله لرسائلها له .. أخذت نسخة عن مسودة الرواية التي كتبتها ، واتجهت بها إلى شقة جميلة في المعادي ، أعطتها لها .. ثم خرجت مسرعة ، كانت مرتبكة فسارت لمدة لا تعرف مداها ، حتى وصلت إلى الكورنيش ، كانت تعبر الطريق عندما فوجئت بجسدها يطير في الهواء قبل أن يسقط مرتطماً بالأرض . كانت ملقاة في الشارع ، تشعر بأصوات متداخلة تتقافز من حولها ، وطنين متواصل يضغط على أذنيها ، ثم بدأت الظلمة تزحف على عينيها ... " تستعذب الإختلاق وخلط الأوراق ، وتهوى المقامرة التي غرسها والدها في نفسها .. تستحضر ذلك العالم وتلك الشخصيات والحنين ليس دافعها .. ولم يكن كذلك قط .. إنما هو محاولة لاستكناه وجودها ذاته ، لمسه والتحقق منه .. تحسس حوافيه المدببة الخشنة ، في محاولة لتتأكد من أن الطفلة الصغيرة ذات الشعر البني المجعد والعينين البرّاقتين هي نفسها المرأة التي تخطو فوق الثلاثين بوجل ، وهي تراكم الأيام فوق بعضها البعض من دون أن تعيشها فعلاً .. ومحاولة للتيقن من أن تلك الأحداث التي تلاشت ولم تعد هناك حدثت بالفعل ، وليست من بنات أوهامها وخيالاته .. هي سلمى البارعة حدّ الموت في خلط الوقائع بالأوهام ، والحقائق بالضلالات ، والعائشة دوماً بوعي غائم ... وتبقى الروائية المختفية وراء سلمى التي دفعت بها للتعبير عن شيء ما ... متكأة من أجل ذلك على تقنية فنية خصية ، لخلق نصّ روائي يتاخم الفلسفة ، ورؤية عميقة واسعة عثرت على بنية روائية وسرديات معقدة تلبّي ما تريد . القدس كانت غربتي الأولى ، وفي الغربة الأولى تولد أولى لحظات الإستكشاف والإنفتاح على عالم كبير بمنأى عن وصاية الأهل المباشرة ، وخالٍ من الشعور التلقائي بالأمن والطمأنينة اللذين يوفرهما المحيط العائلي ؛ وفي مواجهة العالم الكبير ذاته تبرز أهمية ذخيرة الحب والتنشئة اللذين يتغذى عليهما المرء في سنواته الأولى . في غربتي الأولى تعلمت اتخاذ القرار دون العودة على مرجعية الأب أو الأم أو الجدة ، وإدارة شؤوني البسيطة ، وتأمين حاجاتي اليومية كطفل في الثالثة عشرة من عمره . كان أبي محقاً في تعريضي لمثل تلك التجربة ، وإليها يعود الفضل في تسلّحي بالخبرة اللازمة لتحمّلي المسؤولية عن شؤوني في سن مبكرة . وربما منذ أيام القدس الأولى بدأت أولى مهارات الحياتية في التشكّل ؛ ومع الإيقاع اليومي الدقيق للحياة في الكلية العربية بدأت أشكل عاداتي في التنظيم التي حملتها معي في مراحل حياتي المختلفة ؛ وما بين قرع الجرس لإيقاظنا صباحاً وحتى قرعه وإطفاء الأنوار للنوم مساءً ؛ تعلمت أن كل ساعة من ساعات اليوم يجب أن تُقضى في شأن ذي هدف . وبقدر ما يبدو هذا مرهقاً للبعض ، أو مستهجناً لدى البعض الآخر ، إلا أنها الوسيلة التي ستمكنني ربما من تجاوز صعوبات ستعترضني تباعاً في رحلة غير متوقعة ستُفرض عليَّ في سنوات لاحقة .

Copyrighted material, Not available for download
Write a review
Notify me when available for reading

Author

Adnan Algalgouley Adnan Algalgouley

اخصائي طب عيون في الاردن - عمان.

Similar books

Ratings and reviews about (نافذة على الضياء)

Customer Reviews

0.0/5

0.0 out of 5 stars

based on 0 reviews

Ratings and reviews about

5 starts

0 %

4 starts

0 %

3 starts

0 %

2 starts

0 %

1 starts

0 %

Share your thoughts

Share your rating and thoughts with us

Login to add to your review

Recent Reviews

No reviews yet. Be the first and write your review now

Write a quote

Recent Quotes

No quotes yet. Be the first and write your quote now

Readers

No readers yet